مَنِ الّذي قتل الشاعر الفلسطينيّ في نيويورك؟ | أرشيف

الشاعر الفلسطينيّ راشد حسين (1936 - 1977).

 

العنوان الأصل: «أدباء ومواقف: مَنْ الّذي قتل الشاعر الفلسطينيّ في نيويورك».

المصدر: «مجلّة الدوحة».

الكاتب: رجاء النقّاش.

زمن النشر: 1 نيسان (أبريل) 1977.

 


 

في عام 1972 كان الشاعر محمود درويش (1941 - 2008) يعيش في القاهرة بعد أن خرج من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948 (إسرائيل)، لضيقه ممّا يعانيه المواطنون العرب والمثقّفون منهم على وجه الخصوص، من تعذيب واضطهاد على يد السلطات الإسرائيليّة. وكنت ألتقي بمحمود درويش كلّ يوم على التقريب بعد الانتهاء من العمل، وذات يوم دقّ جرس التليفون في منزلي، وكان المتحدّث هو محمود درويش، ولم أكن أنوي الخروج في تلك الليلة؛ فقد كانت ليلة باردة من ليالي شباط (فبراير)، الّتي تغري بالانكماش وعدم الحركة، وجاءني صوت درويش في التليفون وهو يقول: "لماذا لا تحضر عندي الليلة، هناك مفاجأة لك؟ ولم يفصح محمود عن طبيعة المفاجأة، وذهبت إلى بيته المطلّ على النيل في شارع الكورنيش.

 

اللقاء في القاهرة

وهناك وجدت مع محمود شابًّا وديعًا هادئًا توحي ملامحه – من النظرة الأولى – بأنّه فلّاح عربيّ فيه ما في فلّاحينا من حياء وتواضع، وفيه إلى جانب ذلك قوّة جسديّة عرفت أنّها تخفي وراءها كثيرًا من الأمراض. على أنّ هذه القوّة الجسديّة نفسها – في مظهرها – لم تكن تحمل أيّ معنى من معاني التحدّي، ولكنّها توحي بمعنى الصبر والاستعداد لمواجهة المتاعب.

قال لي محمود درويش: أقدّم إليك راشد حسين (1936 - 1977)، إنّك تحدّثني عنه كثيرًا، وتعبّر لي دائمًا عن حبّك وحماسك لشعره، وها هو راشد قد جاء إلى القاهرة في زيارة سريعة، وكان يريد ألّا يلتقي بأحد لأنّه متعب، وكانت خطّته أن يستريح عندي أيّامًا قليلة ثمّ يواصل سفره إلى أمريكا، ولكنّني حصلت منه على الموافقة بأن يتعرّف عليك وحدك، فأنا أعلم أنّ هذه إحدى رغباتك الملحّة.

فرحت جدًّا بلقاء راشد حسين، وقلت له: لا يمكن أن تمرّ هكذا بالقاهرة كما تمرّ العصافير المهاجرة الّتي تقف أحيانًا عند محطّة من محطّات الانتقال لتستريح ثمّ تواص الرحيل. لا بدّ يا راشد من أن يتعطّر نسيم القاهرة برائحة شعرك الجميل مهما كانت الظروف. ولم أكن أدري ماذا يمكنني أن أفعل بالضبط، ففي ذلك العام كان قلبي كسيرًا وممتلئًا بالأسى بعد وفاة أخي الحبيب ’وحيد‘ غريبًا في باريس، وكانت هناك ظروف أخرى عديدة تشعل في نفسي الأسى وتزيد ممّا يقرّبني ويدفعني إلى الاعتكاف والعزلة الّتي لا يقتحمها إلّا عدد قليل جدًّا من الأهل والأصدقاء.

ورغم هذه الظروف جميعًا، كنت أشعر بضرورة الاحتفال براشد حسين، ووجدت في نفسي تصميمًا على أن تسمع القاهرة صوت هذا الشاعر خلال زيارته القصيرة، ويومها طرقت جميع الأبواب وأنا أصرخ: لا بدّ من الاحتفال براشد حسين، لا بدّ من أن يلتقي هذا الشاعر الموهوب المناضل بعدد من الأدباء في مصر، ليستمعوا إلى قصائده ويرحّبوا به ويقولوا له كلمة حبّ صادقة ممّا تعوّدت القاهرة أن تقوله لكلّ إنسان جميل وكلّ شيء جميل.

 

ليلة شبيهة بالحلم

ونجحت أخيرًا في إقناع أحد المسؤولين عن الأندية الأدبيّة في القاهرة بعقد ’ليلة شعريّة‘ لراشد حسين والإعلان عنها في الصحف، وأقيمت الليلة بالفعل وحضرها الكثيرون من الشباب الأدباء في مصر، واهتزّوا فرحًا بهذا الصوت الشعريّ الجميل وعبّروا للشاعر عن فرحتهم به. أمّا راشد حسين، فقد ترقرقت في عينيه دمعتان، وقال لي: هذه الليلة بالنسبة لي أشبه بحلم روحي، فقد رأيت في لحظات من هذه الليلة أنّني زرت فلسطين وعدت.

 

العودة إلى أمريكا والاستشهاد

وفي الصباح سافر راشد حسين إلى أمريكا، حيث يقيم هناك منذ عام 1966، داعية من دعاة القضيّة الفلسطينيّة عن طريق المحاضرات والندوات والاتّصال بالتكتّلات السياسيّة المختلفة، وكان لراشد تشبيه شهير يردّده دائمًا حيث يقول: "إنّ العرب في إسرائيل هم الزنوج في أمريكا؛ فالعرب والزنوج مواطنون من الدرجة الثالثة أو الرابعة". وعندما قامت «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، عَمِلَ راشد في صفوفها وظلّ يعمل هناك إلى أن ذكرت الصحف في أوّل شباط الماضي عام 1977، أنّ راشد حسين أحد أعضاء وفد «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في «الأمم المتّحدة»، قد لَقِي مصرعه مختنقًا إثر حريق شبّ في شقّته بحيّ مانهاتن في نيويورك، وأعلن رجال الإطفاء أنّهم لا يعرفون كيف بدأت النيران، وأضافوا أنّ الحريق اشتعل أوّلًا في غرفة النوم، وأنّهم تمكّنوا من تحطيم الأبواب وإخراجه، كما أكّدوا أنّه لم يحترق وأنّه مات مختنقًا بعد عشر دقائق نتيجة للدخان الّذي ملأ حجرته.

 

مات مقتولًا

هذا هو ما ذكرته الصحف حول مقتل راشد حسين، وسوف ينتهي التحقيق على الأغلب بأنّ الحادث كان من حوادث القضاء والقدر، ولكن الّذي لا شكّ فيه عندي هو أنّ راشد حسين مات مقتولًا، وأنّ النيران الّتي اشتعلت في حجرته هي نفسها المتفجّرات الّتي نسفت سيّارة غسّان كنفاني وجسده وجسد ابنة أخته لميس، عندما كان غسّان يدير محرّك سيّارته ذات صباح في بيروت. وهي نفسها الرصاصات الّتي انطلقت في صدر كمال ناصر وهو يجلس وحيدًا في بيته بعد منتصف الليل، ففي مثل هذا الوقت كان يحلو له أن يكتب قصائده، وقد تلقّى الرصاص في صدره ويده على القلم يكتبه به لفظة جديدة في قصيدة جديدة.

تعدّدت الأسباب والموت واحد، لأنّه موت الشهداء من أجل قضيّة عزيزة غالية.

 

النضال من داخل الأرض المحتلّة

وقد مات راشد حسين وهو في الواحدة والأربعين من العمر، وكان راشد من ألمع الأسماء العربيّة الّتي ظهرت داخل الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948 (إسرائيل) في وقت مبكّر. فقد عرفه القرّاء العرب في ’إسرائيل‘ عام 1957، حيث بدأ ينشر شعره السياسيّ الثائر في الصحف، ويردّده في المؤتمرات والمظاهرات والندوات. وقد عَمِلَ في صحيفة «الاتّحاد» العربيّة اليوميّة الّتي تصدر في أراضي الـ 48 ’إسرائيل‘، وكان يكتب فيها عمودًا يوميًّا من الشعر السياسيّ، يعلّق فيه على الأحداث المختلفة ويدافع فيه عن حقوق الشعب العربيّ ضدّ الطغيان الإسرائيليّ.

اشترك راشد حسين في تكوين «منظّمة الأرض»، وهي التنظيم السياسيّ الّذي أنشأه العرب في الأرض المحتلّة، وقد حاربته السلطات الإسرائيليّة وأصدرت قرارًا بتجريمه ومنعه تمامًا. كما اعتقلت زعماءه ومن بينهم راشد حسين، ولم تكن هذه المرّة الوحيدة الّتي عرَفَ فيها راشد حسين سجون إسرائيل، فقد عرفها بعد ذلك ما يقرب من عشر مرّات. لكنّ راشد لم يتوقّف عن النضال من أجل قضيّته، فقد ناضل بشعره الثائر وبمواقفه السياسيّة أيضًا، وانتهى به الأمر إلى اضطراب صحّيّ كبير، واضطرّ إلى الخروج من ’إسرائيل‘ عام 1966، ليعيش في أمريكا منذ ذلك الحين، حتّى مات شهيدًا كما ذكرنا في بداية هذا المقال.

وقد استغلّ راشد حسين معرفته الكاملة باللغة العبريّة، فنقل إليها الكثير من قصائد المقاومة العربيّة، كما نقل إليها نماذج متعدّدة من الشعر الشعبيّ العربيّ، وكان راشيد يريد بذلك أن يكسب إلى صفّ القضيّة العربيّة كلّ يهوديّ خالٍ من التعصّب للصهيونيّة. كما اتّصل راشد بعدد من المثقّفين والشعراء اليهود أملًا في كسبهم إلى صفّ القضيّة العربيّة.

 

أملاك الغائبين

كانت أوّل قصيدة قرأتها لراشد حسين بعنوان «رغيف خبزك»، والخطاب في هذه القصيدة موجّه إلى الإسرائيليّ المستبدّ الغاصب للأرض العربيّة. في هذه القصيدة يتحدّث حسين عن قانون إسرائيليّ عسكريّ ينصّ على تعيين "قيّم على أملاك الغائبين من العرب"، وهي صيغة قانونيّة شكليّة لسرقة الأراضي العربيّة واغتصابها من أصحابها، ويتحدّث الأستاذ صبري جريس عن هذا القانون في كتابه «العرب في إسرائيل» فيقول:

"إنّ ما هو أكثر إثارة للذهول إنّما هو تطبيق هذا القانون – قانون أملاك الغائبين – على أملاك الوقف الإسلاميّ في البلاد، وتعتبر ملكيّة الوقف تابعة لله، ويحوّل دخل هذه الأملاك لأبناء الطائفة أو لمشروع خيريّ، أو لهدف جُعِلَتْ هذه الأملاك وقفًا عليه. وفي هذه الحالة، لا يمكن الافتراض أنّ الطائفة الإسلاميّة لم يعد لها وجود في البلاد بعد قيام الدولة ’الإسرائيليّة‘. لكن رغم ذلك، نُقِلَت أملاك الوقف الإسلاميّ إلى القيّم على أملاك الغائبين، وربّما كان ذلك على أساس الافتراض بأنّ الله ’غائب‘ حسب قانون أملاك الغائبين".

 

رغيف الدم

هذا ما كتبه صبري جريس عن قانون أملاك الغائبين، وحول هذا المعنى يكتب راشد حسين قصيدته الّتي كانت أوّل ما قرأته له، فيقول:

الله أصبح لاجئًا يا سيّدي

صادر إذن حتّى بساط المسجد

وبع الكنيسة فهي من أملاكه

وبع المؤذّن في المزاد الأسود

واطفئ ذبالات النجوم فإنّها

ستضيء درب التائه المتشرّد

حتّى يتامانا أبوهم غائب

صادر يتامانا إذن يا سيّدي

لا تعتذر! مَن قال إنّك ظالمٌ، لا تنفعل!

أنا لو عصرت رغيف خبزك في يدي

لرأيت منه دمي يسيل على يدي

 

في هذي القصيدة على بساطتها، صوت شعريّ خاصّ شديد التميّز؛ ففي القصيدة إحساس صادق بالمرارة، وهو إحساس يخفي وراءه إحساسًا آخر بالتمرّد والرفض والثورة على الظلم. وفي القصيدة سخرية حادّة نجدها بنفس الدرجة والعمق في معظم قصائد راشد حسين، على أنّ هذه القصيدة تكشف لنا عن خصائص متعدّدة أخرى في شعر راشد حسين، ونحن نلتقي بنفس هذه الخصائص في قصائده المختلفة.

 

ستار التمدّن

إنّه شاعر يتمتّع بوعي سياسيّ واضح، وتكاد قصيدته السابقة عن أملاك الغائبين أن تكون مناقشة مع السلطة الإسرائيليّة حول عدم شرعيّة هذا القانون وعدم إنسانيّته، والصور الفنّيّة المختلفة الّتي يقدّمها الشاعر في هذه القصيدة تهدف كلّها إلى كشف القانون الإسرائيليّ وتعريته أمام الضمير الإنسانيّ. كما تكشف عن الجذور الّتي ينبع منها هذا القانون، وهي جذور التعصّب الصهيونيّ ضدّ الإنسان العربيّ. ليست المشكلة جزئيّة تتركّز في قانون أملاك الغائبين، لكنّها أعمّ من ذلك وأشمل، إنّها مشكلة الّذين جاؤوا إلى أرضنا العربيّة تحت ’ستار التمدّن والحضارة‘، فإذا بهم ينشرون الظلم والعدوان ويحملون معهم القسوة في كلّ شبر يقفون عليه. ولذلك فإنّ راشد حسين يركّز كلّ قصّة الصراع الصهيونيّ الفلسطينيّ في بيت جميل في آخر القصيدة، عندما يقول:

أنا لوْ عصرتُ رغيفَ خبزِكَ في يدي

لرأيتُ مِـنْـهُ دمـي يسيـلٌ علـى يدي

 

هذا الوعي السياسيّ الّذي يكشف الشاعر عنه، توصّل إليه من خلال نضاله المستمرّ؛ فهو لم يكن أبدًا يكتب شعره خارج الأحداث، بل كان يكتب من داخلها. ذلك أنّه منذ تفتّح وعيه في الأرض المحتلّة وهو يعمل في السياسة، فهو رجل عمل ونضال قبل أن يكون شاعرًا، ومن هنا انعكس وعيه السياسيّ بقضيّة شعبه وبلاده على شعره.

 

ومات غريبًا

وأخيرًا، لقد مات حسين قتيلًا في نيويورك، كما مات من قبله غسّان كنفاني وكمال ناصر، واليد الّتي قتلته هي يد الصهيونيّة، ولسوف تقول أجهزة الإعلام الصهيونيّة إنّ إسرائيل بريئة من دم راشد حسين، لكنّ الحقيقة أنّ الذئب ليس بريئًا من الدم الزكيّ العربيّ الموهوب.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.